د.يوسف القرضاوي
روى الشيخان، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فمَن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حِمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"[1] (صدق رسول الله).
منزلة الحديث
هذا الحديث الشريف، أصل من الأصول التي يدور عليها شرع الإسلام، فيه بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الحلال بيِّن وأن الحرام بيِّن، بيّن بالشرع وبيِّن بالفطرة.
أما الشرع: فإن الله لم يَدَع الناس في غُمَّة من أمر دينهم، فأنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ما يُبيِّن للناس ما يحلُّ لهم وما يحرُم عليهم، كما قال الله عز وجل: {قَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
وقال عليه الصلاة والسلام: "قد تركتكم على بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"[2].
وحينما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرفيق الأعلى واختاره الله لجواره، شكَّ بعض الناس في موته، فقال عمُّه العباس رضي الله عنه: "إن رسول الله ما مات حتى ترك لنا السبيل نهجًا واضحا، فأحلَّ الحلال وحرَّم الحرام"[3]. فالحلال بيِّن والحرام بيِّن.
بيِّن بالوحي، وبيِّن بالفطرة.
فالناس يعرفون الحلال من الحرام بفطرتهم.
قلَّ في الناس مَن يجهل: أن الخمر حرام، وأن الزنا حرام، وأن الربا حرام، وأن هذه المنكرات حرام، مَن في الناس يجهل ذلك؟!
مَن في الناس يجهل أن أخذ المال قهرًا وغصبًا حرام؟ أو سرقته خُفية حرام؟!
مَن في الناس يجهل أن ارتكاب المظالم والاعتداء على الضعفاء حرام؟!
هذا أمر بيِّن بالفطرة، كما هو بيِّن بالشرع، ولعلَّ مما يُبيِّن أن هذا واضح بالفطرة، ما ذكره أحد العلماء: أنك تعطى الهِرَّة قطعة من اللحم، فتأكلها وهي مطمئنة أمامك وبجوارك، فإذا خطفت هي منك قطعة من اللحم أخذتها وهرولت وعدت عدوًا، كأنَّ هذه القطة تعرف بالفطرة وبالطبيعة، أن ما أعطي لها فهو حق لها وحلال، وأن ما اختطفته خطفًا هو حرام تعاقب عليه، فهي تسعى وتعدو حتى لا يلحقها العذاب.
فالحلال بيِّن والحرام بيِّن ...
قل مَن حرَّم زينة الله؟
وإذا كان الحلال بيِّنا فلا حرج في فعله، لا يتحرَّج الإنسان من فعل الحلال، ولا حياء فيه، ولا مؤاخذة عليه، أحلَّه الله، فهو حلال إلى يوم القيامة. لا يبالي الإنسان بالناس، ولا يتزمَّت ويُشدِّد على نفسه فيُحرِّم الحلال، كما فعل كثير من المِلل ومن أصحاب الديانات، الذين شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم[4].
ولقد استنكر القرآن أن يُحرِّم الناس ما أحلَّ الله، فقال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:31، 32].
من يُحَرِّم هذا؟!
الحلال، لا حرج في فعله، ولا ينبغي للإنسان أن يتزمَّت فيُحرِّمه على نفسه، فإن هذا من فعل الشيطان، وتحريم الحلال قرين الشرك.
متى يحل الحرام؟
والحرام، لا رُخصة في إتيانه إلا للضرورة، الضرورة المُلحَّة، التي لولاها لهلك الإنسان هلاكا، وهذه الضرورة تُقدر بقدرها، أخذا من قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:173]، غير باغ: أي غير مُتلذِّذ ولا طالب لهذا الحرام، ولا عاد: أي مُتعدٍّ مُتجاوز قدر الضرورة.
مَن اضطر وفعل هذا الحرام، لهذه الضرورة، بهذا القدر، فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
وبدون هذه الضرورة فعلى المؤمن أن يرفض الحرام، فإن وراءه عذاب الله، ووراءه النار، ووراءه غضب الجبار.
على المؤمن أن يرفض الحرام رفضا، كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، حيث عرضت عليه امرأة ذات منصب وجمال، راودته عن نفسه وهو في بيتها، وهو خادمها وهي سيدته، وهي امرأة العزيز، {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}، فماذا فعل هذا الشاب؟! وهو في ريعان شبابه؟! وفي نضرة فُتوته؟! ماذا فعل؟! قال: {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، {إِنَّهُ رَبِّي} ... أي هذا الرجل الذي أكرمني وآواني، سيدي { أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، مَن ارتكب الحرام، وهتك العرض، وخان الأمانة، فلن يُفلح أبدا، لا في أخراه، ولا في دنياه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
وعاودت المرأة الكَرَّة، أمام نسوة في المدينة، وهدَّدته قائلة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، وكان يوسف بين مِحنتين: إما أن يُمتحن في دينه، فيرتكب الفاحشة، ويكون من الفاسقين. وإما أن يُمتحن في دنياه، فيدخل السجن، ويكون من الصاغرين. فآثر المحنة في الدنيا على محنة الدين، وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:33-35]، ورفض يوسف الحرام.
وقد حدث مثل هذا لعبد الله بن عبد المطلب في الجاهلية، حيث راودته امرأة عن نفسه، وكانت تُحبه وتهواه، فقال لها ما رواه تاريخ الأدب:
أما الحرامُ فالمماتُ دونــهُ والحـلُّ ... لا حلَّ فأستبينَهُ
يحمي الكريمُ عِرضَهُ ودِينَهُ فكيفَ بالأمرِ الذي تَبغينـَهُ
منطقة الشبهات
الحرام الذي لا رُخصة في فعله، والحلال البيِّن لا حرج في فعله، ولكن هناك بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن منطقة هي منطقة الشبهات ... التي تلتبس على كثير من الناس. الأمور التي تشتبه على الإنسان، إما لأنه يجهل حُكمها، أو لاختلاف الدليل فيها، لا يعرف أي الدليل أقوى، أو اختلف العلماء: هذا يُحلِّل وهذا يُحرِّم. ولم يستطع أن يطمئنَّ قلبه إلى أحدهما.
أو لأن الأمر اختلط عليه، هذا مال لا يدري أصله، أهو حلال أم حرام؟ مثل هذه الأمور، ماذا يصنع فيها المسلم؟!
موقف المسلم من الشبهات
إن الوَرِع، يتورَّع عن هذه الشبهات، ويَدَعها لله، حتى لا يجترأ عليها فيجترئ على الحرام.
ولهذا قال السلف: اجعل بينك وبين الحرام حاجزًا من الحلال. وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يَدَع ما لا بأس به حذرا لما به البأس"[5]، هذا ورع المتقين، وأدنى من ذلك أن يَدَع الشبهات التي فيها بعض البأس، خشية أن يقع في الحرام الذي فيه البأس كل البأس.
الشبهات، ما اشتبه على الإنسان، يتركها الإنسان، فهذا هو الإيمان، كما روى الحسن بن على رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"دعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"[6]، أي دعْ ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه، "فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة"[7]، وإن الخير طمأنينة والشك ريبة، فكل ما يَريبك، أي يجعل نفسك في قلق، وقلبك في اضطراب، فاتركه، "استفت قلبك"[8]، فإذا لم يطمئن قلبك إلى هذا فدعه. ولهذا كان يقول بعض السلف: ضع يدك على صدرك، فإذا وجدته مطمئنا فأقبل، وإن وجدت فيه قلقا واضطرابا فدعه. وهذا بالنسبة لقلب المسلم، الذي لا يزال فيه النور، ولا يزال فيه شُعاع الهداية، ولا زال كالإبرة المُمغنطة، مُحدد الاتجاه، يعرف اتجاهه، أما القلب الذي رانت عليه الشهوات، وتراكمت عليه ظُلمات المعاصي، فهيهات أن يُستَفتى! فإنه لا يُفتي إلا بالشر، ولا يُفتي إلا باتباع الهوى.
حال السلف عند الشبهات
المسلم يَدَع الشبهات، خشية أن يقع في الحرام، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يجد التمرة في بيته، فيُريد أن يأكلها وهو جائع، فيخشى أن تكون قد سقطت من تمر الصدقة ... ولا حق له فيه، فإن هذا مال عام، وقد حُرِّمت عليه الصدقة ... فيتركها، وقد أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة فبحثت عنه إحدى نسائه فوجدته قائمًا، فقالت له: يا رسول الله! أرقت الليلة. فقال: إني كنتُ قد وجدتُ تمرة تحت جنبي، فأكلتُها، ثم خشيتُ أن تكون من تمر الصدقة، فهذا الذي أرقني ..." [9]، تمرة خشي أن تكون من تمر الصدقة، الذي يجمع في بيته ... فأرَّقت عليه ليله، وأطارت النوم من أجفانه، ونغصت عليه حياته، تمرة واحدة خشي أن تكون مما لا يحلُّ له، اشتبه ... مجرد اشتباه.
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أكل قطفا من العنب، جاء به خادم له، ثم لما أكل بعض الحبات قال له: من أين جئت بهذا؟ فقال: إني مررت على قوم فرقيت لهم، ولم أكن أحسن الرُقى، فأعطوني شيئا، فاشتبه سيدنا أبو بكر في هذا الأمر، فأدخل أصبعه في فيه، وظل يحاول القيء، حتى يُخرج هذا، وهو يحاول ويتعمد، حتى شقَّ عليه ذلك، فقيل له: يا خليفة رسول الله ما لك تفعل هذا؟ فقال: والله لو لم تخرج إلا مع رُوحي لأخرجتُها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به"[10].
وهكذا كان سلفنا، رضوان الله عليهم، يخافون الشبهات.
محمد بن المُنكَدر كان له غلام يبيع في الدكان مناديل، فباع منديلا ثمنه خمسة، باعه لرجل بعشرة، فلما رجع وجده قد باع هذا للأعرابي، فقال له: كيف تبيع ما ثمنه بخمسة، تبيعه بعشرة؟ فقال: إن الرجل قد ارتضى ذلك؟ قال: ولكن كيف ترضى له ما لا ترضاه لنفسك؟ ثم ظل يبحث عن هذا الرجل نهارا كاملا حتى عثر عليه، وقال: إن هذا الذي اشتريته بخمسة ... قال: ولكنه يساوي ذلك وقد رضيت به. قال: ولكننا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، إما أن تأخذ واحدا آخر، وإما أن نعطيك خمسة دراهم. فقال: أعطني خمسة دراهم. وأعطاه خمسة دراهم. هكذا كانوا يُشدِّدون على أنفسهم.
يزيد بن زُرَيع خلَّف له أبوه ميراثا يُقدَّر بخمسمائة ألف درهم -نصف مليون من الدراهم- ولكن يزيد تركه، لأن أباه كان يعمل لبعض السلاطين الظلمة، فخشي أن يكون في هذا المال حرام، أو ظلم، أو غصب أو نهب، أو رشوة، أو شيء من ذلك، فتركه ... وظل هذا الرجل يعمل في صنعة الخُوص -سعف النخل- وظل يتقوت منها إلى أن مات. وهو يترك راضيا مختارا (نصف مليون درهم).
من حام حول الحِمى وقع فيه
هكذا كان سلفنا، ما اشتبه عليهم تركوه، فإن الشُّبهة إذا تجرأ الإنسان عليها تُوشك أن تُوقعه في الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: "مَن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان"[11]، ولهذا قال في هذا الحديث: "ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يُوشك أن يرتع فيه"[12].
حِمى الله محارمه
الحِمى، ما كان يحميه الملوك والسلاطين لإبلهم وأنعامهم ترعى فيه، ولا يقربه أحد، فمن اقترب منه استحق العقوبة. فيُشبِّه النبي صلى الله عليه وسلم، حدود الله بالحمى، الذي لا يجوز الاقتراب منه، ولا يجوز تعدِّيه، وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، ما حدَّه الله في كتابه، فبيَّن فيه الحلال من الحرام، لا يجوز للإنسان فيه أن يتعدَّى الحلال، ولا أن يقترب من الحرام، {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
"ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حِمى الله في أرضه محارمه".
محارم الله هي الحِمى الذي منع الله الناس أن يقتربوا منه، ولهذا كان أسلوب الإسلام في المنع من الحرام هو سدُّ الذريعة إليه، فيقول في النهي عن الزنا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء:32]، أي اجعل بينك وبين الزنا مسافة، فلهذا حرَّم الخَلوة بالأجنبية، وحرَّم التبرُّج، وحرَّم كل ما يؤدي إلى هذه الفاحشة الكبيرة.
فإذا كان الناس يهابون الملوك والرؤساء ويبتعدون عن حِماهم خشية غضبهم وعقوبتهم، فإن حِمى الله هو: المحارم، فعلى المسلم أن يبتعد عنها، وألا يقترب منها، وأن يدقق في أمر الحلال والحرام، فإن الأمر جنة أو نار، أمر ثواب أو عقاب.
كان أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لا يستمدُّ من مَحَابر الناس، ويأخذ مَحبرته عنده، حتى لا يحتاج إلى أن يملأ قلمه من مَحبرة غيره.
وجاء مرة بسمن ملفوفًا في ورقة، فقال: ردُّوا هذه الورقة على البائع فليست من حقنا.
وهذا طبيعي في إنسان يدقِّق في أمر الورع، ويُبالغ في الاحتياط.
أما مَن كان يتقحَّم في المحرمات، ويقع في الكبائر، ويتورَّط في الفواحش، ثم يأتي في الأمور الصغيرة فيدَّعي الورع، فهذا لا يقبل منه. ولهذا أنكر السلف على مَن يفعل ذلك، وقد جاء قوم من الكوفة يسألون ابن عمر عن دم البعوض فقال: قاتلهم الله! يسألونني عن دم البعوض وقد سفكوا دم الحسين رضي الله عنه، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "هما ريحاناتي من الدنيا"، وهما الحسن والحسين رضي الله عنها[13].
فمَن كان هكذا لا يجوز له أن يدَّعي الورع في الأمور المُشتبهات، وهو يرتكب المحرمات، عليه أولا أن يجتنب الحرام المحض، ثم يبحث عما اشتبه عليه.
المسلم الحق هو الذي يَدَعُ ما اشتبه عليه، ويتركه لله عز وجل، حتى لا يجرُّه ذلك إلى الحرام، فإن قلب الإنسان إذا أنس الشبهات، وقع في المكروهات، وإذا وقع في المكروهات هان عليه الحرام، وإذا هانت عليه الصغيرة هانت عليه الكبيرة، وإذا وقع في كبيرة، فرَّط في كبائر وكبائر، حتى يمتلئ قلبه ظلاما -والعياذ بالله- كما قال الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
القلب ملك
والأمر كله مرجعه إلى القلب، القلب إذا امتلأ إيمانا وخشية لله فهو الذي يقف المسلم عند حدود الله، ويُجنِّبه ما حرَّم الله، ويُحذِّره ما نهى الله عنه، ولهذا ختم النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث بقوله: "ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
مرجع الأمر كله إلى القلب، و"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه"[14].
القلب في الأعضاء بمنزله الملك من الرعية، فإذا كان الملك صالحًا صلحت جنوده، وإذا فسد فسدت جنوده وأتباعه. كذلك القلب إذا كان سليما من النفاق والرياء وحب الدنيا، وكان مُمتلئا بخشية الله عز وجل، فإن الجوارح كلها ستنقاد له، وستُطيع أمره، وستسير على نهجه.
أما إذا فسد القلب، فهيهات أن تصلح الجوارح، في أمور الحلال والحرام وفي سائر الأمور.
ولهذا قال الله تعالى: {يَوْمَ لاّ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88،89].
نسال الله أن يُصلح قلوبنا، وأن يُطهِّر سرائرنا، وأن يقفنا عند حدوده، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.
[1]- سبق تخريجه.
[2]- سبق تخريجه.
[3]- رواه الدارمي في المقدمة (83)، وابن سعد في الطبقات (2/267)، عن عكرمة.
[4]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]"، رواه أبو داود في الأدب (4904)، وأبو يعلى في المسند (6/365)، عن أنس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة (6/390)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير (14381).
[5]- رواه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2451)، وقال: حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في الزهد (4215)، والطبراني في الكبير (17/168)، والحاكم في المستدرك كتاب الرقاق (4/355)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب باب في المطاعم والمشارب (5/52)، وفي الكبرى (5/335)، عن عطية السعدي، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (435).
[6]- رواه أحمد في المسند (1723)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2518)، والنسائي في الأشربة (5711)، وابن حبان في صحيح كتاب الرقائق (2/498)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/15)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، عن الحسن بن علي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3378).
[7]- تكملة الحديث السابق في رواية أحمد والترمذي .
[8]- رواه أحمد في المسند (18001)، وقال محققوه: إسناده ضعيف من أجل الزبير أبي عبد السلام، والدارمي في البيوع (2533)، وأبو يعلى في المسند (3/160)، عن وابصة، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (1734).
[9]- رواه أحمد في المسند (6720)، وقال محققوه: إسناده حسن، عن عبد الله بن عمرو، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله موثقون (3/245).
[10]- رواه الحاكم في المستدرك كتاب الأطعمة (4/141)، وسكت عنه هو والذهبي، وأبو نعيم في الحلية (1/31)، والبيهقي في الشعب باب في في المطاعم والمشارب (5/56)، عن أبي بكر، ورواه أحمد في المسند (14441)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات غير ابن خيثم –وهو عبد الله بن عثمان- فصدوق لا بأس به، عن جابر بن عبد الله، بلفظ: "أنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت"، ورواه البخاري في مناقب الأنصار (3842) ، عن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
[11]- رواه البخاري في البيوع (2051)، وأحمد في المسند (18384)، والبيهقي في الكبرى كتاب البيوع (5/264)، عن النعمان بن بشير.
[12]- سبق تخريجه.
[13]- رواه البخاري في الأدب (5994)، وأحمد في المسند (5675)، والترمذي في المناقب (3770)، عن ابن عمر.
[14]- رواه أحمد في المسند (13048)، وقال محققوه إسناده ضعيف، عن أنس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة وضعفه آخرون (1/213)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2554).