هديه /نعمان الشماري
المسلمة التقية
عصام بن محمد الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين... حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
شرع لعباده الشرائع لينالوا بها أعلى الدرجات، وينجوا بها من الهلاك والدركات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الفضل العظيم والخير العميم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الكريم.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فهذه رسالة إلى كل مسلمة، أصف لها فيها طريق التقوى ومعالمه، وكيفية سلوكه، ونماذج لنساء صالحات كي تقتدي بهن.
وأعني بـ"المسلمة التقية" تلك الفتاة أو المرأة التي آمنت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبحمد نبيًا ورسولاً، ورضيت بمنهج الله تعالى وشريعته ودينه دربًا وطريقًا.
فهي ليست تلك الفتاة التي أخذت الدين إرثًا عن آبائها وأجدادها، أو تقليدًا لغيرها من النساء.
ولا تلك الفتاة التي أخذت من دينها ظاهره فقط، وغفلت عن باطنه وحقيقته، فإن الدين كلٌ لا يتجزأ، مظهر ومخبر، سلوك وعقيدة، فهي لا تفرط في شيء من دينها بأي حال من الأحوال، فولاؤها كله لدينها ولعقيدتها.
إن المسلمة التقية لا ينتهي طموحها عند بعض المظاهر أو الشعائر التعبدية، لا ينتهي مثلاً عند حد الحجاب، وترك سماع ومشاهدة الملاهي المحرمة، بل إنها لا تزال في جهاد وترقٍ في تحقيق العبودية لربها تبارك وتعالى إلى الموت، تصديقًا لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
إن المسلمة التقية ـ حقيقة ـ هي التي تعلم أنها قدوة لغيرها من نساء المسلمين.
لذا فهي حريصة أشد الحرص على ألا يخالف سلوكها قولها، كما قال تعالى على لسان نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]؛ لأن من الخطورة بمكان أن يتكلم الإنسان بلسانه ويُكذب ذلك بأفعاله.
وصدق من قال:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهمًا
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدًا
إن مظاهر التقوى عند المسلمة لا تظهر في شيء دون آخر، بل لابد أن تكون في كل شيء؛ في عبادتها، وفي سلوكها، وفي مخبرها، وفي مظهرها، وفي عقيدتها، وفي أخلاقها.
وحتى في هيئتها: في شكلها، وقيامها، ومشيتها، وحركاتها، وفي أعمالها وأقوالها، في كل شيء.
يا أيتها المسلمة التقية:
إن أهل التقوى هم ملوك الدنيا، كما أنهم هم ملوك الآخرة، وهم أهل السعادة الحقيقية، والشرف العظيم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طـه: 132]، وقال تعالى أيضًا: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35].
فهيا سويًا نسير في هذه الرسالة لنعرف:
معنى التقوى، وأهميتها وفضلها، وما يعين المسلمة على بلوغها، وصفات المسلمة التقية.
ثم نتأمل في نماذج الرعيل الأول؛ كيف دفعتهن التقوى إلى الترقي في مراتب الإيمان، والقرب من رب الأرض والسموات.
هو الموت فاصنع ما أنت صانع
ألا أيها المرء المخادع نفسه
ويا جامع الدنيا لغير بلاغة
فكم قد رأيت الجامعين قد
وكتبه
عصام بن محمد الشريف
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الاثنين 4 رمضان 1422هـ
الموافق 19 نوفمبر 2001م
معنى التقوى
اختلفت تعبيرات العلماء في تعريف التقوى مع أنها تدور كلها حول مفهوم واحد؛ وهو أن يجعل العبد بينه وبين الله وقايةً تقيه سخط الله تعالى وغضبه.
قال ابن رجب رحمه الله: "وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه"( ).
وقال ابن القيم رحمه الله:
"وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيده"( ).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به".
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، قال: "أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
وقال عمر بن عبد العزيز: "ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير".
وقال بعض العلماء: "التقوى أن تهتم بتزيين سرك ومخبرك وباطنك أكثر من اهتمامك بمظهرك".
أهمية التقوى وفضلها
إن معرفة المسلمة لأهمية التقوى وفضلها تدفعها ولا شك إلى سلوك كل سبيل يوصلها إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذا هو المقصود.
وتظهر أهمية التقوى وفضلها في:
1ـ أنها وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ...} [النساء: 131].
2ـ أنها وصية النبي لأمته، كما في حديث العرباض بن سارية: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"( ).
3ـ أنها وصية جميع الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام:
كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 105، 106].
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 123، 124].
وكذلك هي وصية صالح ولوط وشعيب وموسى عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
4ـ أنها أفضل زاد يتزود به العبد، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
5ـ أن أهل التقوى هم أولياء الله عز وجل وهم أكرم الناس.
قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثـية: 19].
6ـ أن الله عز وجل أمر المسلمين بالتعاون على التقوى، ونهاهم عن التعاون على ما يخالفها:
فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
صفات المسلمة التقية
لابد أن يكون هناك فرق ظاهر بين المسلمة التقية الصادقة، والمسلمة التي تدعي التقوى ولا تسلكها، أو تسلك الطريق الخاطئ، لذا كان ولابد من أن تُجْلَى الصفات الحقيقية للمسلمة التقية، ولعل أهمها:
1ـ حب الله تعالى ورسوله ، وهذا الحب يحملها على وجوب الطاعة المطلقة لله ولرسوله .
قال ابن القيم رحمه الله( ): "فالمحبة شجرة في القلب، عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته، ومادتها التي تسقيه ذكره، فمتى خلا الحبُّ عن شيء من ذلك كان ناقصًا".
وعلى ذلك فإن استقرت محبة الله عز وجل ومحبة رسوله في قلب المسلمة حملها ذلك على:
1ـ الحرص على تدبر تلاوة القرآن.
2ـ الإكثار من النوافل من صيام وصلاة وصدقة ونحو ذلك.
3ـ كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان.
4ـ إفراد النبي بالاتباع.
5ـ عدم تقديم قول أي شخص على قول الله وقول رسوله .
6ـ مجالسة أهل الطاعة من النساء الصالحات الدَّيِّنات.
7ـ تذكر الموت والاتعاظ به.
8ـ الاعتزاز بشرائع الإسلام، حتى وإن كانت تخالف هواها.
2ـ مراقبة الله عز وجل:
فإن المسلمة حين تغفل عن مراقبة الله عز وجل لها واطلاعه عليها، يحملها ذلك على اقتحام حرمات الله فتعصيه ولا تبالي، أما المسلمة التقية فهي تستشعر مراقبة الله عز وجل فتستحي من مخالفته، وتطهر ظاهرها وباطنها مما يغضب الله عز وجل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "استحيوا من الله تعالى حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلا، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل فقد استحيا من الله حق الحياء"( ).
قال البيضاوي رحمه الله: "ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه، بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه عما لا يرضاه من فعل وقول".
وقال الحارث المحاسبي: "المراقبة علم القلب بقرب الرب".
وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
فأي مراقبة هذه لمن باعت نفسها بأبخس الأثمنا؟!
وأي مراقبة هذه لمن تبرجت وتعرت وعصت الواحد القهار؟!
وأي مراقبة هذه لمن لا تتقي الله في لسانها؟
وأي مراقبة هذه لمن لم تشغل لسانها بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؟
وأي مراقبة هذه لمن تعيش لدنياها وتغفل عن آخرتها؟!
وأي مراقبة هذه لمن لا تتقي الله تعالى في زوجها وأولادها؟!
3ـ مجاهدة نفسها ومغالبة هواها:
فالمسلمة التقية دائمًا في صراع مع نفسها وهواها، تجاهدهما وتغالبهما بطاعة الله تعالى والتقرب منه والأنس به، فهي دائمًا تحاسب نفسها، فإن وجدت تقصيرًا ـ ولابد ـ لامتها لومًا شديدًا ووبختها وعصمتها بطاعة الله تعالى، فإن بقيت على ذلك فإن نفسها ستصغو وتزكو، وسيصبح هواها مقيدًا دائمًا بالشرع، أما من تترك العنان لنفسها وهواها ليقوداها، هلكت وأضاعت نفسها وخسرت خسرانًا مبينًا.
قال الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله: "إذا همَّت نفسك بالمعصية فذكِّرها بالله، فإذا لم ترجع فذكِّرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكِّرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة انقلبت إلى حيوان"( ).
وقد أخبر الله عز وجل أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هدى من الله أنه من أظلم الظالمين فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
4ـ عدم اتباع خطوات الشيطان:
وذلك يتم بمعرفة مكائده ومصائده، والحذر من وساوسه ودسائسه، فيجب على المسلمة ابتداءً أن تعلم أن الشيطان عدوٌ لبني آدم، فلا يمكن أن يأمرها بخير أو ينهاها عن شر، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وصور مكائد ودسائس الشيطان كثيرة، ولنضرب مثالاً يوضح ذلك:
يأتي الشيطان ـ لعنه الله ـ إلى المسلمة يحذرها من الحجاب، وأنه تزمت وتشدد في الدين، فكم من محجبة لها تصرفات وسلوكيات غير سوية، وعلى ذلك فالمهم الأخلاق.
فإن وجد عندها إصرارًا على الحجاب، كرَّه إليها الحجاب الشرعي وزين لها الحجاب المتبرج، حتى تظن المسكينة أنها إذا ما ارتدت شيئًا على شعرها فقد تحجبت حتى لو ظهر شيء آخر من عورتها، حتى إذا وصل الحال بها إلى هذا الحد المزري، زين لها معاصي أخرى وأنه لا تعارض بين هذه المعاصي والحجاب، فلها أن تتخذ صديقًا، وأن تذهب إلى أماكن المنكر لمشاهدة أفلام أو مسرحيات وهكذا. حتى إذا استطاع أن يوقعها في الزنا لأوقعها وهي لا تزال تضع غطاءً على رأسها!!
لذا فإنه يجب على المسلمة أن تعرف ما تستعين به على الشيطان حتى تحفظ نفسها من شِركه وحبائله وهو:
1ـ الاستعاذة بالله منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
2ـ قراءة المعوذات.
3ـ قراءة آية الكرسي عند النوم.
4ـ قراءة سورة البقرة لقوله : "إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"( ).
5ـ قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة كل ليلة.
6ـ قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" مائة مرة كل يوم، تكن لقائلها حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي.
7ـ كثرة ذكر الله عز وجل.
8ـ الوضوء والصلاة.
9ـ إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة.
5ـ تعظيم شعائر الله عز وجل، قال تعال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
والشعائر جمع شعيرة: وهي كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، كما قال القرطبي رحمه الله.
فالمسلمة التقية هي التي تعظم طاعة الله وأمره، فيدفعه ذلك إلى طاعته طاعة مطلقة، طاعة الذل والخضوع والحب للواحد القهار، وتعظم كذلك ما نهى الله عنه، فيمنعها ذلك عن معصيته، وصدق من قال: "أعزوا دين الله يعزكم الله".
فالمسلمة المتمسكة بصلاتها وحجابها، الحافظة للسانها وعورتها، إنما هي في حقيقة الأمر معظمة لشعائر الله.
ألا فلتتب كل مستهترة إلى ربها، ولتبادر بالعمل الصالح قبل فوات الأوان.
ما يعين المسلمة على تقوى الله
إن المسلمة لن تتقي الله تعالى وتصل إلى درجة التقوى الحقيقية إلا بعد أن تتخذ من الوسائل والأسباب ما يوصلها إلى ذلك، ولعل أهم ما يعين المسلمة على ذلك:
1ـ تحقيق العبودية لله تعالى:
فالعبادة هي الطريق المؤدي إلى بلوغ درجات التقوى، وقد خلق الله الخلق لتحقيق هذه الغاية وتلك الوظيفة، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال أيضًا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والعبادة بمعناها العام تشمل جميع أعمال المرء الإرادية؛ قلبية كانت أو سلوكية، ويمكن تعريفها بأنها: عمل العبد الإرادي الموافق لطلب المعبود( ).
وقد عرفها الإمام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"( ).
"أما العبادة بمعناها الخاص فهي: الأعمال المحددة التي كُلِّف العبد بالقيام بها، وهي ما يعبر عنها بـ"الشعائر التعبدية" كالأركان وغيرها من الفرائض، وهي أعمال مقصورة لتحقيق الطاعة للخالق والتقرب إليه، وإعلان الخضوع الكامل له.
ومن هنا كانت العبادة بمعناها الخاص تحمل معنى الغاية والوسيلة في آن واحد، فهي غاية في حد ذاتها لأنها قربة وطاعة لله وخضوع عملي له، وهي وسيلة من جهة أخرى نظرًا لما تحتويه من تحقيق الخضوع لله تعالى والإشعار به"( ).
إن عبودية المسلمة لله تعالى تتحقق عندما تخضع لشرع الله تعالى، وتنقاد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرَّم الحرام، وفرض الفرائض، وحدَّ الحدود، وتقوم بذلك كله بحب وذل له وحده جلَّ وعلا، بحيث تصبح حياتها كلها مصطبغة بالإسلام، في أقوالها وفي أعمالها الظاهرة والباطنة، وأن يكون ولاؤها لهذا الدين وحده، ويظهر ذلك في سلوكياتها ومنهج حياتها، بحيث تعيش لله وحده، وكل ما في الدنيا يندرج تحت حكم الله تعالى.
2ـ العلم النافع:
ونعني به كل علم يقرب من الله سبحانه وتعالى، ويزيد الخشية منه، ويدفع إلى العمل الصالح.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل القربات عند الله تعالى، فيه تصح العبادة التي هي "فرض عين" على كل مسلم ومسلمة، كما أن الاستزادة من العلم تعلي قدر المسلمة عند ربها، وترفع منزلتها.
وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة في بيان شرف العلم وأهله فمنها:
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وعند معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"( ).
والعلم النافع له من الثمرات العظيمة ما يغرسه في نفس المسلمة من تقوى الله تعالى والخشية منه، بل إن العلم النافع هو الذي يدفع مباشرة إلى تقوى الله تعالى؛ لأنه هو الذي يعرف المسلمة على ربها حق المعرفة، فتخشاه وتهابه، فيدفعها ذلك إلى كل عمل صالح، ويلزم صاحبته بالخلق الفاضل، والأدب الكامل، والاعتصام بالكتاب والسنة، وإخلاص القصد لله سبحانه، وبذلك يثمر ثمراته المرجوة منه.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله:"من فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي ( )، وصار علمه وبالاً وحجة عليه، فلم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصًا ولها طلبًا ولم يُسمع دُعاؤه ـ لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه"( ).
3ـ العمل الصالح:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق"( ).
لذلك فإن الترابط بين العلم والعمل وثيق جدًا، فلا يتصور وجود علم بلا عمل، أو عمل بدون علم.
والعمل الصالح هو الذي يمد المسلمة بالهمة على مجاهدة نفسها والارتقاء في منازل التقوى والقرب من الله تعالى، وكلما ازداد تمسكها بالفرائض ومسارعتها إلى النوافل كان ذلك زادًا لها على تحقيق التقوى، أما إذا تركت بعض الطاعات أو تكاسلت عن بعض النوافل؛ فإن زادها سيضعف، وجوادها سيتعثر.
ولذلك أرشدنا النبي أن القليل الدائم من العمل خير من الكثير المنقطع فقال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"( ).
قال الإمام النووي في بيانه لما يشرد إليه هذا الحديث: "فيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع. وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص، والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة"( ).
4ـ محاسبة النفس:
فالمسلمة ينبغي لها أن تقف مع نفسها وقفة حساب وعتاب كي تأمن من شرها وتتحكم في قيادها، وقد جاءت الآيات والأحاديث مبينة أهمية المحاسبة، فمنها:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
وقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1، 2].
قال مجاهد: اللوامة هي التي تندم على ما فات وتلوم نفسها.
وقال : "الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"( ).
قال الإمام الترمذي: معنى دان نفسه أي: حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة.
ويقول الحسن البصري رحمه الله: "لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه".
ويقول أيضًا رحمه الله: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
5ـ مداومة التوبة والاستغفار:
فإن العبد لا يخلو من ذنب أو معصية؛ وذلك لبشريته، لذا كان واجبًا عليه أن يداوم على التوبة والاستغفار.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8].
والتوبة النصوح ـ كما يقول الإمام ابن كثير رحمه الله ـ: هي التوبة الصادقة الجازمة التي تمحو ما قبلها من السيئات، وتكفُّه عما كان يتعاطاه من الدناءات، وذلك بأن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم أن لا يفعل ذلك في المستقبل( ).
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".
وروى أيضًا عن الأغر المزني ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله قال: "أيها الناس؛ توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة".
فسارعي أيتها المسلمة إلى التوبة، ولا تؤخريها أو تسوفيها، فإن ذلك مهلكة وبُعدٌ لك عن طريق التقوى.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن المبادرة إلى التوبة من الذنوب فرض على الفور لا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة، وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، ولا يُنجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه وما لا يعلم"( ).
6ـ الصبر ومجاهدة النفس:
فلتصبر المسلمة على طاعة الله، وتصبر عن معصيته، وتصبر على ما تتعرض له من بلاء، وهذا الصبر بأنواعه الثلاثة يحتاج منها إلى مجاهدة نفسها.
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقال تعالى أيضًا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكملُ الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرضُ الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا. فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد"( ).
وقال : "المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل"( ).
7ـ صحبة الصالحات، والتأمل في سير النساء الصالحات:
فإن ذلك يكسب المسلمة الصلاح والتقوى، ويرقى بها إلى مدارج القرب من الله تعالى، وتتقي بذلك آفات النفس ومكائد الشيطان.
ولذلك أمرنا الله تعالى بصحبة أهل الصدق والتقوى والحرص على مجالستهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
وقال تعالى أيضًا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].
وقد أرشدنا النبي في أحاديث كثيرة إلى ضرورة اختيار الجليس الصالح وصحبته، والبعد عن جلساء السوء وترك مصاحبتهم، فمن ذلك:
قوله : "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"( ).
وقوله أيضًا: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة"( ).
فالصحبة الصالحة كنز لا ينفد، وكلما كان صلاح الأصحاب أكبر ازدادت ثمرات تلك الصحبة؛ وعظمت آثارها في مختلف المجالات.
وبالصحبة يشيع الحب في الله، وتجد المسلمة من تنصحها وتوصيها بالخير وتذكرها بالله.
وبالصحبة تجد المسلمة القدوة الصالحة التي هي الطريق لحسن العاقبة في الآخرة؛ حيث تتأثر بأخلاقهن وسمتهن، وتستفد من علمهن وحديثهن، وتقوى من هِمتها وعزيمتها في الطاعة.
كما ينبغي للمسلمة القراءة في سير النساء الصالحات من الرعيل الأول ومن بعدهن، ولتتأمل أخبارهن، ولتطالع صفحات أعمالهن، فإن في ذلك أكبر دافع للعمل الصالح والتأسي.
8ـ تذكر الموت وأهوال القيامة:
فإن المسلمة التي تذكر الموت دائمًا والنقلة إلى القبر والبعث إلى يوم القيامة فإن ذلك يحررها من أسر الدنيا والشغف بها، كما أنه علاج لكثير من أمراض النفس؛ من الحسد والطمع والأنانية والكبر والغرور، وغير ذلك من أمراض النفس.
كما أن تذكر الموت والقيامة أيضًا يدفعان المسلمة إلى التزام التقوى والعمل الصالح.
يقول الحسن البصري رحمه الله: "حقيقٌ على من عرف أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده، أن تطول في الدنيا حسرته، وفي العمل الصالح رغبته".
وقال أيضًا رحمه الله: "ما أكثر عبدٌ ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل".
وكان يقول رحمه الله: "أيها الناس إنا والله ما خُلقنا للفناء ولكن خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار".
نماذج نسائية رائدة
لقد ضربت النساء ـ كما ضرب الرجال ـ المثل والقدوة العالية في تقواههن لله تعالى، وهذه بعض النماذج التي تدلل على ذلك، عسى أن تكون حافزًا لنساء المسلمين للوصول إلى هذه الدرجة السامية، بالتأسي بهذه النماذج الرائدة.
1ـ تحري أكل الحلال والتورع:
ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة كانت تعجن عجينًا، بلغها أن زوجها قد مات فرفعت يدها عنه وقالت: "هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء" (تعني الورثة).
وكانت المرأة من نساء السلف إذا خرج الرجل من منزله، تقول له امرأته أو ابنته: "إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضُّر ولا نصبر على النار".
ذكر الخطيب أنه كان لبشر الحافي الزاهد المشهور أخوات ثلاث، وهن: "مُخَّة"، و"مضغة"، و"زبدة"، وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعًا أيضًا، ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد فقالت: "إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ عند البيع أن أُمَيّز هذا من هذا؟" فقال: "إن كان بينهما فرق، فميزي للمشتري".
وذكر الحافظ ابن الجوزي رحمه الله امرأة كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: "هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء".
2ـ الإنفاق في سبيل الله:
كانت زينب رضي الله عنها تجلس الساعات الطويلة بعد الفجر تذكر الله عز وجل، ولما سمعت رسول الله يقول: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، قالت: فرجعت إلى عبد الله ـ زوجها ـ وقالت له: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله قد أمرنا بالصدقة، فأْتِهِ فإن كان ذلك يجزئ عني ـ أي من حُليها ـ وإلا صرفتها إلى غيرك.
فقال لي عبد الله بن مسعود: بل ائته أنت.
قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله ، حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله قد أُلقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما إلى أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبره من نحن؟( ).
فدخل بلال على رسول الله فقال رسول الله : "من هما؟" فقال: امرأة من الأنصار وزينب؟ فقال: رسول الله : "أي الزيانب؟" فقال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله : "لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة".
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفُتخ والقرطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن.
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمتْ، أما أسماء فكانت لا تمسك شيئًا لغد".
3ـ الاجتهاد في العبادة:
روى مسلم وغيره عن ابن عباس أن النبي خرج من عند جويرية بكرة، حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: "ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟" قالت: نعم. قال النبي : "لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته".
وعن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟" قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك"( ).
وكانت زينب رضي الله عنها أم المؤمنين صالحة، قوامة، صوامة، بارّة، ويقال لها: أم المساكين.
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي : "لا حُلُّوه، لِيُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد"( ).
وعن يونس بن ميسرة قال: كنا نحضر "أم الدرداء" وتحضرها نساء عابدات، يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.
4ـ الحرص على الستر والحياء والعفاف:
قالت عائشة رضي الله عنها ـ في قصة الإفك ـ: "فلما أخذوا رأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه من داعٍ ولا مجيب، وقد انطلق الناس، فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ، فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي"( ). والشاهد منه مبادرتها رضي الله عنها إلى تغطية وجهها حرصًا على الستر، وإقامة لحدود الله عز وجل.
وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور( )؟ ثم دعت بخمارٍ فكستها"( )، وفي رواية "الموطأ": "وكستها خمارًا كثيفًا"( ).
ودخل عليها رضي الله عنها نسوة من نساء أهل الشام، فقالت: لعلكن من الكُورة( ) التي يدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول الله يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب"( ).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتهأ، خرق الله عز وجل عنها ستره"( ).
وذلك لأن الجزاء من جنس العمل.
وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قَنعَّتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوك وغُلامُكِ"( ).
ويُروى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله قالت: "يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع النساء أن يُطرحَ على المرأة الثوب فيصفها". فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة، فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذه وأجمله تُعرَفُ به المرأة من الرجل( ). فإذا مِت أنا فاغسليني أنت وعليٌ، ولا يدخل عليَّ أحدٌ، فلما توفيت غسلها عليٌ وأسماء رضي الله عنهما"( ).
والشاهد منه: أن فاطمة عليها السلام استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح.
ومثله: ما جاء عن نافع وغيره: أن الرجال والنساء كانوا يخرجون بهم سواء، فلما ماتت زينب بنت جحش رضي الله عنها أمر عمر رضي الله عنه مناديًا فنادى: "ألا لا يخرج على زينب إلا ذو رحم من أهلها"، فقالت بنت عميس: "يا أمير المؤمنين ألا أريك شيئًا رأيت الحبشة تصنعه لنسائهم؟"، فجَعلت نعشًا، وغشَّتُه ثوبها، فلما نظر إليه قال: ما أحسن هذا ما أستر هذا!" فأمر مناديًا أن اخرجوا على أمكم( ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله : "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرًا" قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخين ذراعًا، ولا يزدن عليه"( ).
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: "إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله عز وجل أن يعافيك". قالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها( ).
والشاهد فيه حرصها على التستر حتى في حال العذر، ففي رواية البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو هذه القصة أنها قالت: "إني أخاف الخبيث أن يجردني" الحديث.
وعن امرأة من الأنصار قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فدخل عليها رسول الله وكأنه غضبان، فاسْتَتَرْتُ بكُمِّ درعي، فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المؤمنين كأني رأيت رسول الله غضبان؟ قالت: نعم أو ما سمعتيه؟ قالت: قلت: وما قال؟ قالت: قال: "إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتناه عنه أنزل الله عز وجل بأسه على أهل الأرض". قالت: قلت: يا رسول الله، وفيهم الصالحون؟ قال: "نعم، وفيهم الصالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يقبضهم الله عز وجل إلى مغفرته ورحمته ـ أو : إلى رحمته ومغفرته ـ"( ).
والشاهد قولها: "فاستترت بكم درعي".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (أتيت النبي فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: "اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"( ). فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي ، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعتْ ذلك المرأة، وهي في خِدرها، فقالت: "إن كان رسول الله أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشُدك"، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها).
وموضع الشاهد منه واضح.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"( ). فخطبتُ جارةً فكنتُ أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها".
والشاهد قوله : "فإن استطاع"... إلخ؛ لأنه يبرز حرص المرأة المسلمة على الستر، حتى ليشق على من أراد رؤيتها أن يراها إلا بعناء واستغفال واختباء.
وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: خطبت امرأة، فجعلت أتخبأ لها، حتى نظرت إليها في نَخل لها، فقيل له: أتفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله ؟! فقال: سمعت رسول الله يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئ خِطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها"( ). ولو كانت هذه المرأة متكشفة معروضة كنساء هذا الزمان ـ إلا من رحم ربك ـ لما احتاج إلى الاختباء.
وفي رواية سهل بن أبي حثمة قال: "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك فوق إجار ـ وهو السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه ـ لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله ؟! فقال" ذكر الحديث.
وعن عاصم الأحول قال: "كنا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رحمك الله، قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] هو الجلباب، قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60]، تقول: هو إثبات الحجاب"( ).
"ولما كان العلامة الكاساني في حلب طلبت منه زوجته الفقيهة فاطمة بنت السمرقندي الرجوع إلى بلاده، فلما همَّ بذلك استدعاه الملك العادل نور الدين، وسأله أن يقيم بحلب، فعرَّفه أنه لا يقدر على مخالفة زوجه، إذ هي بنت شيخه، فأرسل الملك إلى فاطمة خادمًا بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، وأرسلت إلى زوجها تقول له: أبَعُدَ عهدُك بالفقه إلى هذا الحد؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إليَّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين الرجال في عدم جواز النظر؟ فأرسل إليها الملك امرأة لتكلمها في هذا"( ).
5ـ الجهاد والتضحية والصبر من أجل الدين:
لقد (كانت لقريش صولةٌ وانبساطٌ بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل، ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب: سمية بنت خُبَّاط أم عمار بن ياسر كانت سابعة في الإسلام، وكان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وكان رسول الله يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رَمضَاء مكة فيقول: "صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة"( ). حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المرَّ بظاهرة من الكفر أجرياها على لسانهما، وقلباهما مطمئنان بالإيمان، وقد عذر الله أمثالهما بقوله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. فأما المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قِتلتها، فقد أنفذ النذل أبو جهل بن هشام حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
قال ابن حجر: وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزًا كبيرة، ضعيفة، ولما قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبي لعمار: "قَتَل الله قاتل أمك"( )اهـ.
وغير سمية كثيرات احتملن ما احتلمت:
فمنهن: من كانوا يلقونها ويحملون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وممن عُذِّب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها، ولما ذهب بصرها قال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت لهم: والله ما هو كذلك، وما تدري اللاتِ والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء والله قادر على أن يرد عليَّ بصري، قيل: فرد عليها بصرها. فقالت قريش: هذا من سحر محمد ، وقد اشتراها أبو بكر وأعتقها رضي الله عنها( ).
ومنهن: من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌ يذيب اللحم ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ( )، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزيَّة بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلاً، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع عليَّ منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلاً، ثم رفع، ثم عاد أيضًا، فصنع ذلك مرارًا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم( ).
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ قبل أن يُسلم ـ يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني المؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا ملَّ قال لها: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة، فتقول له: كذلك فعل الله بك( ).
وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: لما توجَّه النبي من مكة، حمل أبو بكر معه جميع ماله ـ خمسة آلاف، أو ستة آلاف ـ فأتاني جدي أبو قحافة وقد عمي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه، فقلت: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوَّة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده، ووضعتها على الثوب، فقلت: هذا تركه لنا، فقال: أما إذا ترك لكم هذا، فنعم.
وعن ابن إسحاق قال: حُدثتُ عن أسماء، قالت: أتى أبو جهل في نفر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري والله أين هو؟ فرفع أبو جهل يده، ولطم خدي لطمة خرَّ منها قرطي، ثم انصرفوا( ).اهـ.
وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر ـ وكانت صائمة ـ سمعت حسًا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها( ).
آمنت أم كلثوم بنت عقبة ـ وهو سيد من سادات قريش ـ دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقر أمنها ودَعَتِها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال، وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها، إلى رسول الله ، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها، فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون( ).
ذلك قليل من كثير مما يشهد للمرأة المسلمة باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله.
ومن هذا القبيل مواقف تكشف وضوح قضية "الولاء والبراء" في حس المرأة المسلمة وضوحًا لا يخالطه شائبة ضعف، أو انهزام، أو هوادة مع من حادَّ الله عز وجل ورسوله .
فهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وقد جاءت أمها "قُتَيلة" راغبة في صلتها، فتوقفت حتى سألت رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم، صلي أمك"( ). وفيها نزل قوله تبارك وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
وعن يزيد بن الأصم: قال: تلقيتُ عائشة، وهي مقبلة من مكة، أنا وابن أختها ولدٌ لطلحة، وقد كنا وقعنا في حائط بالمدينة، فأصبنا منه، فبلغها ذلك؛ فأقبلت على ابن أختها تلومه، ثم وعظتني موعظةً بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك حتى جعلك في بيت نبيه، ذهبت والله ميمونة، ورُمي بحبلك على غاربك! أما إنها كانت من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم( ).
وعن يزيد: أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها، فوجدت منه ريح شراب، فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين، فيجلدوك، لا تدخل عليَّ أبدًا( ).
كذلك تأثرت المرأة بأدب الإسلام، وخرجت به عما احتكم بها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.
وكان من أول ما لقنت المرأة من أدب الله تعالى ورسوله ، الاعتصام بالصبر إذا دجا الخطب وجل المصاب.
وقد تقدم ذكر خبر الخنساء، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها على أخيها، لقد استحال كل ذلك إلى صبرٍ أساغه الإيمان، وجمَّله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا.
أولئك أبناؤها، هم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: (يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجَّنتُ حسَبَكم، وما غيَّرتُ نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية.
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها، وجلَّلتم نارًا على أرواقها، فيمِّموا وطيسَها( )، وجالدوا رسيسها( )، تظفروا بالغُنْم والكرامة في دار الخُلْد والمقامة".
فلمَّا كشَّرت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم حتى قُتلوا واحدًا في إثر واحد.
ولمَّا وافتها النُعاة بخبرهم، لم تزد على أن قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مُستقر الرحمة"( ))( ).
6ـ إزالة الجهل عن نفسها بتعلم العلم الشرعي:
لقد بلغ حرص النساء المسلمات على العلم غايته حتى تطلبن المجالس الخاصة بهن للتعليم مع أنهن يستمعن في المسجد لتعليمه ومواعظه .
كذلك نجد النبي يسن للنساء سنة مؤكدة، ألا وهي: شهود مجامع الخير يتزودون منها.
فعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق( )، والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين... قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: "لتلبسها أختها من جلبابها"( ).
وجاء في "فتوح البلدان" للبلاذري أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانت تتعلم الكتابة في الجاهلية على يد امرأة كاتب